نبذة العصر في اخبار ملوك بني نصر آخر ايام قرناطة
وقف المنشدون فوق ربوعك وصعدوا اناشيدهم الالهية صلاة إلى رب الكائنات، فلا تزال ترن في نياط قلوب الملهمين.
جلس المؤرخون تحت حنايا ساحاتك وبايديهم صحائف الأزمنة الغابرة يستعرضون بها حوادث الايام، وارادوا ان يؤرخوا مجدك في سجل التاريخ. الخالد فهابهم جلال المكان فما سطروا الأخيوطأ مترجرجة ورسوما مرتعشة من الافتراضات، وخرجوا حاسري الرأس امام عظمة العبقرية.
برز الفلاسفة وفي افواههم مفاتيح الحكمة واشرفوا من قاعة السفراء على اسوار المدينة وابراجها المنيعة فاستعظموا العلة ومجدوا المعلول. فاطرقوا مفكرين واذا بحكيمهم يقول: «لتعرف الخليقة حقارتها امام عظمة الكون ومفاعيل الزمن فيا له العلل إرحمنا».
ذهب الشعراء الى هياكلك يلتمسون الالهام من ربة الشعر وهتموا بوصف جمالك فبهرهم قوة الوحي والخيال واذا بأميرهم يسبح ويجود ويقول :
قدساً في البلاد شرقاً وغرباً
حجة القوم من فقيه وقس
مرمر تسبيح النواظر فيـه
ويطول المدى عليها فترسي
وكان الآيات في جانبيه
بتنزلن من معارج قدس
ثم جاء المهندسون مستهزئين بالشعر والشعراء وبالوحي والالهام وبايديهم الخيوط والمقاييس وباشروا بقياسات المربعات، فاذا. بمربعاتهم مثلثات ومثلثاتهم دائرات وزواياهم ساحات، فصعقوا وتمتموا قائلين: هذا من السحر بمكان فآمنا بالسحر الحلال.
وقف الرعاة بقطعانهم فرق اطلالك عند المغبب فانعكست اشعة الشمس على لوحاتك الذهبية فتجلى بهاؤك وجلالك فعلموا ان المكان. مقدس فخلعوا النعال من ارجلهم وخروا ساجدين يتلون آيات التمجيد للعلي الرحمان، واذا بالنسيم العليل يردد تسبيح الرعاة على انغام حفيف اوراق الشجر وصوت قيثارة الطبيعة الساحرة .
إلى تطوان
الى بلد الأمن والعيش الخضيل.
إلى معقل العروبة وحصنها المنيع.
الى ذاك البلد الطيب الذي ينسي الغريب غربته والشريد محنته ونكبته ويؤاسي الجميع ببلسم لطف بنيه.
قد كنت ياتطوان ملجأ الاندلسيين بعد محنتهم، وانت الآن ملجأ كل حر أبي فاليك يامستودع الوطنية والخلق الجميل الذي يعتز بك كل عربي تحت كل سماء وفوق كل أديم.
حكاية المخطوطة
كان من حكمة الجنرال فرنكر وثاقب بصيرته في اثناء حرب تحرير اسبانيا ان يقرن الى انتصاراته العسكرية انتصارات أدبية تكون. نواة نهضة عربية اسبانية جديدة تمحو ما اقترفته الحكومة السابقة على الثقافة والمدنية من شر وظلم وتكون ايضاً في الوقت. نفسه فاتحة عهد جديد لحسن التفاهم ولتقوية الصلات الثقافية. والأدبية بين الأمتين المتجاورتين التي تربطهما منذ القدم روابط ثقافة عالية وتاريخ مشترك ومدنية سامية تغذت منها أوربا وعاشت عليها طيلة سبعة قرون.
ففي صيف عام 1937 أمرني سعادة الكولونيل بيكبدر المفوض السامي الاسباني بالمغرب المعروف بحبه الشديد للعرب وتفانيه في سبيل نشر. الثقافة العربية في هذه المنطقة السعيدة، وذلك نزولا عند رغبة واوامر صاحب السمو الملكي مولاي الحسن. بن المهدي بـن اسماعيل نصير العلم والأدب ورافع لوائهما ومجدد مجد العرب في هذا القطر المحبوب: ان اقوم برحلات علمية تنقيبية وان اجول بين القبائل والمداشر والدساكر. المغربية من حواضر وبوادي ابحث في الخزائن والمكاتب عن آثار العرب الكرام وكنوزهم الأدبية المكنونة وما تركوه من منتوجات افكارهم ومولدات قرائحهم.
لغة المخطوطة و اسلوب المؤلف
قد نهج المؤلف باسلوبه نهجاً يختلف عن أسلوب اكثر المؤرخين في عصره فقد تجنب التطويل الممل والاكثار المبتذل والمبالغات الوهمية. وسلك طريق الاختصار والاقتصار كما افادنا في مقدمته : «وعولت فـي ذلك على الاختصار والاقتصار وتركت التطويل والاكثار لان باعي في التأليف قصير وبضاعتي في الفصاحة مزجاة» . اما من حيث اللغة فالاضطراب ظاهر في جميع النواحي، وان كان المؤلف قد خالف بعض المؤرخين من ابناء عصره في الأسلوب فقد جاراهم في الاظهار والتعبير.
مرقعة بلش وشرقية مالقة و انتصار المسلمين
فلما كان شهر صفر من عام ثمانية وثمانين وثمانمائة اجتمع من زعماء النصارى مواقتادهم جمع عظيم ولم يكن معهم ملكهم وقصدوا. قرى بلش وشرقية مالقة يريدون أخذ اهلها وفسادها فلما وصلوا تصايح اهل تلك الجهات واجتمعوا رجالاً دون فرسان وصاروا. يعترضون النصارى في المضايق والاوعار والمخانق ويقاتلونهم ويقتلون. منهم خلقاً كثيراً، فلما رأى النصارى ذلك جعل الله في قلوبهم الرعب ووقع بينهم الخذلان فانهزموا في تلك القرى والمخانق. والاوعار وصاروا يتهافتون فيها تهافت الذباب والفراش في النار والمسلمون في اثرهم يقتلونهم ويأسرونهم ولم تغن عنهم كثرتهم ولاعدتهم شيئاً بأذن الله.
وكان في وقت هذه الكائنة الأمير محمد ابن سعد بمدينة مالقة فلقي النصارى من ناحيته فقتل واسر منهم ايضاً خلقاً كثيراً وولوا الادبار وأسر منهم. ما ينيف على الفي اسير فيهم جماعة من قوادهم واقتادهم وهرب باقيهم وتركوا خياهم ودوابهم ورحالهم وامتعتهم، فاحتوى على ذلك كله المسلمون وحملوه الى مدينة مالقة فجمعوه بها على ان يقسموه على كل من حضر الوقيعة المذكورة.
استيلاء النصارى على البيرة وحصن المكلين وقلنبيرة 891 هـ
فلما كان النصف الاول من جمادى الآخرة من عام التاريخ المذكور خرج ملك الروم بمحلته دمره الله، فقصد حصن البيرة، فنزل عليه ونصب انفاطه. وعدته فلما رأى المحصورون مالا طاقة لهم بهمن شدة القتال والحصار طلبوا منه الامان على انفسهم وخيلهم ودوابهم واسلحتهم وجميع ما يقدرون علي حمله من امتعتهم ،فاجابهم. الى ما طلبوه منه ووفى لهم به، فخرجوا واخلوا له الحصن وصاروا الى غرناطة ثم انتقل العدو الى حصن مكلين ايضاً فنزل عليهم بمحلته وقرب منه بعدته وانفاطه وقاتلهم قتالاً شديداً وهدم بعض الاسوار بالانفاط.
و كانت له انفاط يرمي بها صخوراً من نار فتصعد في الهواء وتنزل على الموضع وهي تشتعل ناراً فتهلك كل من نزلت عليه وتحرقه فكان ذلك من جملة ما كان يخذل به اهل المواضع التي كان ينزل عليها.
فلما رأى اهل حصن مكلين ما نزل بهم من البلاء وانه لا طاقه بهم به طبرا الامان كما فعل اهل حصن البيرة وخرجوا مؤمنين باموالهم ووفي لهم بما طلبوه منه. فلما سمع اهل حصون قلنبيرة ما حل بمن جاورهم من الحصون خافوا على انفسهم فطلبوا من العدو دمره الله الأمان على انفسهم واموالهم وسلموا اليه الحصن من غير قتال.
ثم رحلوا الى غرناطة باموالهم وامتعتهم واولادهم وتوجه العدو دمره الله الى منتفريد فنصب عليه عدته وانفاطه وقاتله قتالاً شديداً فلما رأى المدافعون ما لا طاقة لهم به ولم تغن. منعة الحصن شيئا اذعنوا وطلبوا منه الامان مثل ما طلب اهل الحصون المتقدمة فاجابهم الى ما طلبوه وخرجوا مؤمنين بما معهم من الامتعة قاصدين مدينة غرناطة.
وكذلك اتفق ايضاً لاهل حصن الضحة واستولى العدو في هذا الشهر على جميع الحصون وصارت بيده وقهر بها غرناطة وأخذ في بنائها وتحصينها. وتمنيعها واصلاح شأنها وشحنها بجميع ما تحتاج اليه من طعام وعدة ورجال وغير ذلك، ليضيق على غرناطة
