رواية أرض زيكولا
يقولون: الحب أعمى.. وهو يقول: «أصابني العمى حين أحببت ... ولكن ماذا يفعل؟ .. ها هو قد أحب وحدث ما حدث .. وها هو يجلس كل يوم في حجرته ليكتب مجدداً.
أنا خالد حسني .. ثانية وعشرون عاما.. خريج كلية تجارة القاهرة منذ ستة أعوام .. بلدي يسمى «البهوفريك، تابع لمحافظة الدقهلية . . واليوم قد رفض زواجي بحبيبتي للمرة الثامنة.. ولنفس السبب.
ثم نظر إلى الحائط .. وقد قام بتعليق الورقة بجوار سبع ورقات أخرى، يبدو أنها علقت في أوقات سابقة.
الورقة الأولى مكتوب بها اسمه، وسنه، وبلده، وبها : «رفض زواجي بحبيبتي اليوم»، وبجوارها ورقة ثانية، وبها: «رفضت للمرة الثانية».. والورقة الثالثة بها رفضه للمرة الثالثة.. وهكذا حتى الورقة السابعة.
بعدها أسند ظهره إلى الخلف ونظر إلى أعلى، وعادت به ذكرياته إلى ماقبل ستة أعوام مضت حين كان يدرس بالسنة الأخيرة بالجامعة.
وشاءت الأقدار أن يتعرف على «منى» ابنة بلدته صدفة في طريقها من البلدة إلى جامعته بالقاهرة.
وزادت فرحته حين علم أنها تدرس بنفس الكلية في عامها الأول بالجامعة .. ومن يومها وقد تعددت صدف لقائها كثيرا سواء بقصد أو دون قصد.
حتى أفاق من ذكرياته، وزفر زفرة قوية حين نظر إلى ورقة كبيرة علقها على الحائط أسفل الثاني ورقات، وقد كتب عليها: «رفضت لنفس السبب... السبب.. والد «منى» المجنون.
كان «خالد» إن سمع كلمة مجنون فدائما يتذكر والد «منی».. ولا أعتقد أنه «خالد» فقط، بل جميع أهل البلدة.. ولكن «خالد» أكثر من عرف ذلك المجنون.. فمنذ أن أنهى دراسته، وعزم على أن يتقدم للزواج من «منی» حتى فوجئ بأبيها -في أول زيارة لخطبتها - ينظر إليه بغرابة:
- أنت عاوز تتجوز «منی»؟!
خالد: - أيوه.
- والد «منى، وقد ارتفع حاجباه: وأنت عملت أيه في حياتك؟! ازداد وجه خالد احمرارا، واضطرب قليلا.. وكأن السؤال صاعقة لم يتوقعها.. حتى رد:
- عملت أيه في حياتي!.. الحقيقة أنا مش فاهـم قصد حضرتك بالسؤال.. بس أنا خريج كلية تجارة جامعة القاهرة.
وحضرتك عارف إن والداي توفاهم الله، وعايش مع جدي من صغري .. ومعفي مـن الجيش.. وحاليا بدور على وظيفة مناسبة.
رد الرجل:
- وتفرق أيه عن غيرك عشان أجوزك بنتي؟!!.. ثم أنهى المقابلة بالرفض..
اعتقد خالد وقتها أن سبب رفضه للمرة الأولى أنه لم يجد الوظيفة المناسبة .. ولكنه تأكد أن السبب ربما يكون غير ذلك تماما، حين وجد عملا وتوجه لخطبة «منی» مجدداً.
حتى قوبل بالرفض للمرة الثانية ونفس سؤال الأب: «ماذا فعلت في حياتك؟» .. وبم تختلف عن غيرك..
هذا السؤال الذي لم يجد إجابة وافية لأبيها حتى المرة الثامنة لطلبه الزواج، ولم يراع في كل مرة حب خالد لابنته أو حب ابنتـه له .. حتى فاض بخالد الكيل في تلك المرة فصاح به:
- أنا معملتش حاجة في حياتي.. أعمل أيه يعني؟!!.. عارف إنك كنت بطل في حرب 73.. شايف إن ده سبب يخليك تذلنا؟!
يعني أنت عاوز بطل لبنتك .. قولي أبقى بطل ازاي.. أروح أحارب في العراق عشان تنبسط ؟!!.. ثم نظر إليه وقد ظهر الغضب في عينيه:
- هاتجوز «منی» یعنی هأتجوزها.. غصب عنك هأتجوزها.
كان «خالد» يظن أنه يتحدث إلى نفسه وحيدا .. ولكنه لم يكن يعلم أن هناك من يسمع حديثه إلى نفسه بصوت عال خارج الحجرة.
حيث كان يقف جده مجاورا لباب الحجرة، ويستمع إلى ذلك الحديث وصياحه إلى صورة (منى).. ورغم هذا لم تبد على وجه جده أي نوع من أنواع الدهشة، وكأن ما سمعه من حديثه عن نزوله السرداب.
أمر لا يمثل له أي اختلاف، بل يبدو وكأنه أمر يتوقع حدوثه.. وظل واقفا هكذا حتى صمت «خالد»، وأغلقت أنوار حجرته، وساد الهدوء المكان، ولم يقطع هذا الهدوء إلا ذلك الصوت المميز الذي يعلمه جده جيدا حين ينام «خالد».
وصل «خالد» إلى شاطئ البحيرة مرة أخرى ثم جلس، وقد بدا الحزن والضيق على وجهه .. حتى اتجه إلى أغراضه بجوار شجرة البحيرة.
وقد أخرج الأقلام والأوراق التي اشتراها .. وقرر أن يكتب أي شيء .. لا يدري ماذا يكتب، ولكنه يعلم أنه لا سبيل لذلك الضيق سوى أن يكتب.
كما كان يفعل دائما حين كان يرفضه والد «منی» وكان يكتب وريقاته، ويعلقها على حائط غرفته .. حتى أمسك بقلمه.. وبدأ يرسم خطوطا، ويكتب كلمات غير مفهومة..حتى كتب ماذا أفعل؟
بعدها فوجئ بـ «أسيل» تقترب منه .. وقد ابتسمت:
- كنت أعرف أنني سأجدك هنا .. ثم سألته:
- لماذا لم تعمل اليوم؟
فصاح «خالد» غاضبا:
- واشتغل ليه؟!.. أنا كرهت كل حاجة هنا..
فابتسمت «أسيل» في هدوء.. تريد أن تخفف من غضبه:
- حسنا.. ماذا فعلت بعدما تركتك بالأمس؟
فأخبرها «خالد» بأنه لم يفعل شيئا.. وظل يقظا حتى أشرقت
الشمس فتابعت:
- لست وحدك من أصابك الأرق.. أنا أيضا لم أنم..
فنظر إليها «خالد» في دهشة .. حتى أكملت:
- كنت أفكر كيف تجد كتابك..
ثم سارت بعض الخطوات بعيدة عنه .. بعدها إلتفتت إليه، وقالت:
- تريد أن تبحث في كل مناطق زيكولا .. وأنا أريد أن أساعدك في ذلك..
ثم ابتسمت:
وهنا في زيكولا لا أحد يساعد غيره دون مقابل .. ثم صمتت برهة
وأكملت:
- وأنت لا تريد أن تعمل .. ثم نظرت إلى أسفل:
- ولهذا لن أستطيع مساعدتك..
الكثير من الحراس يقفون أمام أحد القصور فعلم أنه قصر الحاكم .. حتى توقفت أمامه العربة ونزلت «أسيل، ومعها «خالد حاملا حقيبتها القماشية.
واتجها إلى داخل القصر.. و«خالد» يتلفت حوله ويشاهد البراعة المعمارية مستمتعًا، وقد لاحظت أسيل، ذلك بعدما تلكأ في خطواته.. فحدثته مبتسمة:
على مساعدي أن يسرع .. ليس هناك وقت للتأمل .. فابتسم «خالد»، وأسرع حتى دخل معها إلى بهو القصر.. وهناك وجد رجلا تبدو عليه الفخامة والنفوذ.. وبجواره العديد من الأشخاص والذين بدا عليهم الثراء أيضا.
وقد علم «خالد» ذلك من ملابسهم المزركشة، والتي قد تباع إحداهم بما يكفي لإنقاذ عشرات الأشخاص من الذبح.. حتى انحنت «أسيل».. وانحنى معها «خالد».. بعدها تحدث الحاكم إلى «أسيل»:
أسرع «خالد» إلى ذلك المكان الذي وصفه له الرجل مقابل وحدتين من ذكائه.. وهناك وجد شخصا يعمل به.
فسأله عن ذلك الكتاب لعل صاحبه قد باعه أو أهداه إلى تلك المكتبة .. فلم يجبه الشخص .. وأخبره بأنه لا يعلم كثيرا عن تلك الكتب.. وقد سمح له أن يدخل إلى المكتبة مقابل خمس وحدات أخرى من ذكاء «خالد».. وقد وافق «خالد» على ذلك.. واتجه إلى داخل المكتبة.
نظرات الفتيات الأخرى اللاتي تهامسن حين وجدنه يحملها وكأن الغيرة أصابتهن.. حتى وصل «خالد» إلى باب الغرفة فدفعه بقدمه ثم دلف إلى الداخل، والفتاة ما زالت. تضحك حتى طرحها على أرضية الغرفة.. وأكمل سيره للداخل حتى وجد إناء كبيرا به ماء فحمله، وعاد به إليها وسكبه بالكامل فوق رأسها حتى صرخت من برودة الماء ثم سألها:
- افتكرتي أنا مين؟
فنظرت إليه دون أن تجيب، فأسرع مجددا ، وحمل إناء آخر، وسكبه
فوق رأسها؛ فصرخت:
- تذكرتك.. أرجوك.. لا حاجة لمزيد من الماء.
فسألها «خالد» على الفور :
- مين اللي قتل أبوه عشان يرثه .. وفي الآخر ورث كتاب؟
صمتت الفتاة، وكأنها تتذكر ثم سألته:
- هل حدثتك عن ذلك؟
رد «خالد» متلهفا: - أيوه.